نتنياهو- من وهم النصر المطلق إلى الهروب نحو إيران

المؤلف: إيهاب جبارين10.06.2025
نتنياهو- من وهم النصر المطلق إلى الهروب نحو إيران

في أتون حرب طاحنة تدور رحاها في قطاع غزة، يتبادر إلى ذهن نتنياهو تصوّر لانتصاره المزعوم، كأنه مشهد سينمائي مبهر يُعرض أمام أنظار العالم أجمع. يرى نفسه متربعًا في قلب الصورة، وعن يمينه يصول ويجول رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، وإلى جواره يتبختر رئيس جهاز المخابرات الخارجية (الموساد)، وعلى يساره ينتصب غالانت وهيرتسي هاليفي. جميعهم يحدقون في شاشات ضبابية، تعرض صورًا لجنود النخبة بوجوه مُشوّهة، ثم يمنحهم نتنياهو الإشارة الحاسمة لإلقاء القبض على يحيى السنوار.

ربما كان نتنياهو يحلم بصورة يصوغها على هواه ومشتهياته، صورة تجسد إلقاء القبض على خصمه اللدود، السنوار، وتزييف مشهد لانتشاله من أحد الأنفاق المظلمة، في مشهد يضاهي لحظة القبض على صدام حسين. ومن ثم، يقوم بمحاكمته على شاشات التلفزيون محاكمةً قد تمتد لأشهر أو ربما لسنوات طوال، يتم فيها توجيه الاتهامات ضد السنوار فيما يتعلق بأحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول وما تلاها من تداعيات، وربما أيضًا فيما سبق السابع من أكتوبر.

وهذا الأمر يعيدنا بالذاكرة إلى محاكمة (آيخمان)، النازي الذي اختطفه الموساد من الأرجنتين ليحاكمه بصورة رمزية عن كل جرائم النازية في تل أبيب.

ثم يتم إعدامه شنقًا، وبعدها يتم حرق جثته وإلقاء رماده في عرض البحر!

ولكن، شاءت الأقدار أن تُسطّر سيناريو مختلفًا تمامًا عن أحلام نتنياهو الوردية، إذ تم اغتيال السنوار في غزة، ولم يهرب الأخير من القطاع كما كانت تروج إسرائيل، ولم يكن مختبئًا في أحد الأنفاق محاطًا بالأسرى الإسرائيليين كما ادعت الحكومة الإسرائيلية. بل المشهد الحقيقي يظهر أن السنوار اشتبك مع بضعة جنود، بل وقد حدث ذلك مصادفةً ودون تخطيط مسبق من الجيش ولا معلومات استخباراتية دقيقة. حتى إن أولئك الجنود لم يكونوا من القوات الخاصة كوحدة الكوماندوز مثلًا. وقد أربك هذا المشهد المفاجئ وغير المخطط له حسابات بنيامين نتنياهو وبعثرها في مهب الريح!

لطالما اعتاد نتنياهو على إدارة التوقيت بدقة متناهية، وفقًا لأهوائه ورغباته، لتحقيق مآربه السياسية والعسكرية والإستراتيجية. فهو لا يختار الوقت الذي ينفذ فيه اغتيالاته أو يصدر فيه قراراته بشكل عشوائي أو عبثي. فلم يكن من قبيل الصدفة أن يصرح باعتبار قطاع غزة منطقة قتال ثانوية قبل أسبوعين.

بل كان يهدف من وراء ذلك إلى تثبيت الوضع الراهن في قطاع غزة، واعتباره حالة أمنية خطيرة تهدد إسرائيل، فيستغلها في إحياء حالة الهلع والذعر لدى الإسرائيليين، ولكن ضمن وتيرة معينة، تتلخص في العمل على إضعاف صدى القضية الفلسطينية عن طريق افتعال أزمة أخرى بذات الزخم. ويعتبر هذه الأزمة المفتعلة ملاذًا آمنًا بالنسبة له، وهذا ما نراه جليًا من خلال تعامله مع الجبهة اللبنانية!

ولكن تفاجئه الجبهة التي لم تكن في حسبان نتنياهو في الوقت الحالي، ألا وهي الجبهة الإيرانية. بل والأكثر من ذلك، أن نتنياهو لا يستطيع تجاهل هذه الجبهة، وذلك لأهميتها الجيوسياسية في المنطقة. حيث كان يشير في كتاباته إلى رغبته في وأد القضية الفلسطينية داخل الجبهة الإيرانية، فلطالما اختزل القضية الفلسطينية في البعد الإيراني لا غير.

فهو يرى أن القضاء على إيران يعني بالضرورة القضاء على كل ما له صلة بفلسطين، سواء المقاومة الفلسطينية أو التحرير أو حتى حق العودة. لذلك، قام نتنياهو باختصار القضية الفلسطينية في شخص حماس، وحماس في ظلّ إيران. ولهذا يرى أن التخلص من إيران، أو الشر الأكبر حسب تعبيره، يعني موت القضية الفلسطينية والمقاومة المتمثلة في حماس. لذا، صحيح أنه كان يطمح إلى الزحف نحو طهران باعتبارها مركزًا لمحور المقاومة ومعسكرها الأكبر بالنسبة إليه، لكنه لم يكن يريد الاندفاع والتهور في ذلك.

لقد كان نتنياهو يعتزم استغلال حالة الغموض التي تكتنف الحرب لتشويه صورة الشرق الأوسط وإعادة ترتيبه لنظام إقليمي جديد وفق تصور أشار إليه في مناسبات عدة. ومن ثم، ترتيب الأوراق الداخلية لإسرائيل، بما في ذلك إعادة النظر في القوانين القضائية وتعديلها، وبالتالي احتكار اليمين المتطرف للسلطة في إسرائيل بكل ما تحمله الكلمة من معنى!

ولكي يحقق كل هذه المشاريع الطموحة، فإنه يجب عليه أن يضمن استمرار الحرب. ولاستمرار الحرب، فإنه يحتاج إلى ذرائع واهية. وإن كانت ذرائع إسرائيل دائمًا ما تختلف عن أهدافها الحقيقية، حيث تقوم بتشخيص الوضع بشكل خاطئ ومتعمد، لكي تعالجه بطريقة تلائم تصوراتها ومصالحها الذاتية.

فمثلًا، تتذرع إسرائيل في حربها على قطاع غزة بهدفها المعلن بالقضاء على حكم حماس وإضعافها عسكريًا وسياسيًا. وهذا الهدف أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق بالنسبة لإسرائيل، خاصة بعد عمليات الاغتيال الكبيرة التي قامت بها. إضافة إلى أن القدرات الصاروخية لحماس أصبحت أضعف من ذي قبل ولم تعد تشكل خطرًا حقيقيًا على أمن إسرائيل.

وبعد تحقيق هذين الهدفين، وخاصة بعد اغتيال السنوار، لم يعد هناك مجال لنتنياهو لتجاهل ملف الأسرى، وهو الهدف الثالث الذي أعلنه منذ بداية الحرب. ولكن تكمن المشكلة لدى نتنياهو في أن إتمام صفقة إعادة الأسرى سيعني بالضرورة إنهاء الحرب في غزة، وإنهاء الحرب في غزة يعني انتهاءها في الجبهات الأخرى، وهذا ما لا يريده على الإطلاق.

فانتهاء الحرب يعني أن على إسرائيل العودة إلى يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول والتحقيق في كل تداعياته والأسباب التي أدت إليه، ومحاسبة المسؤولين عنه، وهذا ما سيلغي مشروعه السياسي الطموح وربما ينهي مستقبله السياسي برمته!

إن اغتيال السنوار قد وضع نتنياهو بين خيارين أحلاهما مر، وهما ما صرح به ليلة أمس بايدن وسموتريتش. حيث يريد منه بايدن إنهاء الحرب والذهاب نحو صفقة تبادل، بينما يريد سموتريتش منه الاستمرار في هذه الحرب لتحقيق أهداف استيطانية توسعية، فمشروع سموتريتش يهدف إلى السيطرة والاستيطان من البحر إلى النهر، وهذا ما يؤيده نتنياهو ضمنيًا. وبالتالي، عليه أن يختار بين هذين الخيارين المتناقضين، لكنه صرح منذ البداية أنها حرب وجود وحرب بقاء.

لذا، يبدو أنه سيستمر في حربه الضروس حتى تحقيق مآربه ومشروعه الإقليمي والاستيطاني، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، كيف سيفلت من الضغط الأميركي المتزايد لإنهاء الحرب، إضافة إلى ضغط أهالي الأسرى المتلهفين والمعارضة الإسرائيلية المطالبة بالاتجاه نحو صفقة تبادل عاجلة؟

بالطبع، سيكون ذلك من خلال القفز إلى الجبهة الإيرانية المشتعلة، وهذه الضربة ستكون بمثابة الورقة الرابحة بالنسبة له. لذا، سيضعها على الطاولة لثلاثة أسباب رئيسية، أولها تحييد الرأي العام الإسرائيلي المنقسم، والثاني إعادة قطاع غزة إلى خانة الجبهة الثانوية الهامشية، أما السبب الثالث فهو استغلال مقتل السنوار، والذي يعتبره مشهد نصر عابر، لإضافة مشهد انتصاري آخر يُضاف إلى رصيده المتآكل!

ومن هنا نعود إلى مشاهد نتنياهو الخيالية، ومخيلته الجامحة نحو إنتاج مشاهد انتصارات زائفة ولحظية، حيث كان حدث اغتيال السنوار بعيدًا كل البعد عما كان يخطط له. لا يمكن إنكار أن مقتله يمثل انتصارًا لإسرائيل، ولكنه انتصار تحقق بمحض الصدفة والقدر، وهو ما قد تحاول إسرائيل التنصل منه فيما بعد، وإظهار الأمر على أنه عملية بطولية خارقة، خاصة أن مشهد موت السنوار كان مشهدًا يؤكد رواية المقاومة الفلسطينية ويدحض الرواية الإسرائيلية الزائفة بحقه.

ولكن، بغض النظر عن طبيعة المشهد وتفاصيله، فإن الحقيقة المؤكدة تكمن في أن السنوار لم يعد موجودًا على قيد الحياة، أي لم يعد هناك من يعلق عليه نتنياهو أسباب عرقلة الصفقة واستمرار الحرب وتهديد أمن إسرائيل المزعوم. وفرصته الوحيدة الآن هي الهروب إلى إيران من خلال توجيه ضربة قاصمة لها، وربما نشهد ذلك في الساعات القليلة القادمة!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة